كوكب واحد ، موطن واحد

Statements

كوكب واحد ، موطن واحد

"إنّ وجه الأرض عبارة عن شبر واحد ووطن واحد ومقام واحد، فتجاوزوا عن الإفتخار الموجب للإختلاف. وتوجهوا إلى ما هو علة الإتفاق"

حضرة بهاء الله

 

إنّ عالَم الطّبِيعَة بِرَوْعَتِهِ وعَظَمَتِهِ يُعْطي بَصائر قَيِّمَة في صَميمِ الإعْتِماد المُتَبَادَل.

فَبِدايةً مِن الغُلافِ الجَوِّيّ بِأَسْرِهِ وَوُصُولًا إلى أَدَقِّ الكائناتِ حَجْمًا، يَعْرِض لنا كَمْ يَعْتَمِد أيّ كائن حَيّ على عَدَدٍ لَايُحْصَى مِن الكائنات الأُخرى، ويُظْهِر أيضًا أنّ عَدَم التَّوَازُن في نِظامٍ واحِد لَهُ آثاره على باقي الأنْظمة المُتَرابِطَة الأُخْرى.

ولأنّ البَشريَة تُكَوِّن جُزءا أَساسِيا في هذا النِّظام الأعظَم وتَعْتَمِد عَليْهِ بِصُورَة كَبيرة، فإنّها تُواجِه مُفارَقة لَها عواقب تَزْدادُ أَضرارَها يومًا بَعد يومٍ. فمِن وُجْهَة، تَمْتَلِك البَشريّة قُوّة لِصياغَة العالَم بِأَسْرِهِ لَا نَظِير لَها في التّاريخ، بَلّ وأَسْماهُ البّعض بالأَنْثرُوبوسِين (نِظامًا جُيولُوجِيا مُقْتَرَحًا يَبدأ مِن الحِقْبَة الّتي شاهَدَت بِدَاية التّأثير الهائل لِلبَشَر على جُيُولوجِيّة الأرض وأَنْظِمَتها البِيئِيّة)، وهذه القُوّة دليلٌ واضحٌ لِقُدُراتِنا وإمْكانياتِنا المجتمعية على الإبداعِ والاِبتكار، ودَليلٌ أيضا لإمكاناتِنا الكامِنة واللّا مُتناهِيَة في الطّريق أمامنا. ولَكِن مِن وُجْهَة أُخرى، إنْ لَمْ تَخْضَع هذه القُوّة بالاِهتمامِ المَدْرُوس، بل على العكس إنصاعت لأولويات تجاهلت الخير المشترك في الحاضر والمستقبل، فإن نفس هذه القوة ستؤدي إلى عواقب لَن تُؤَثِّر في العالَم بِأَسْرِهِ فَحَسْب، بَلّ قَدّ تَكُون تِلك العَواقِب مبرمة.

وكَمَا أَصْبَحت التّأثِيرات الجَسِيمة لِتَجاوُز حُدود الكوكب ظاهِرة بشكلٍ مُتَصاعِد، كالتّغَيُّر المَناخي وفُقدان التّنَوُع الحَيَوِي والتّلَوُث والتّدَهْوُر البِيئي، فكَذَلك أجبرت البَشريّة على تَطوير عِلاقات ناضِجَة ومُتعاوِنة وبَناءَة بَيْن شُعوبِها وبيئتها الطبيعية.

قَدّ تَقدّم التّفكير في القَضايا البِيئيّة بِصورةٍ مَلحوظة مُنذ مُؤتمر الأُمم المُتّحِدَة عام 1972 والّذي كان حَدَثًا بارزًا لِنقاش بيئة الإنْسان. ففي نِصفِ القَرن الماضي، بَرز التّقدُّم المُحرَز سَواء في المجالات العِلْميّة أو القانونيّة أو المؤسّساتيّة كسببًا يَدعو إلى الثِّقَة ومَصدرًا لِلتّفاؤل. ولَكِن اليوم، أصبحت تَرّجَمة هذه الزيادة في الفهم إلى أفعال بحاجة إلى سرعة أكبر ومدى أوسع. وأصبحت التّغيرات الشّامِلَة في تَنظيم وإدارة الشُّئون البَشريّة أمرًا لازمّا وَوُجوديّا وضَروريّا يَسْتَحيل تَجَنُّبِهِ. والسُّؤال الذي يَطْرَح نَفْسه أمام شعوب وقيادات العالم هو إذا كان ما يجب القيام به سيكون نابعا من اختيارات مقصودة وواقية، أَمْ سَيكُون مَفْروضًا علينا مِن الدَّمار والمُعاناة الّتي سَتَنْجُم عَن زِيادة الاِنهيار البيئيّ المُتَصاعِد.

الوِصايَة على عالَم الطّبيعة

يُمارِس البَشر مُسٍتَوًى مِن التّأثير على عالَم الطّبيعَة فريدا عَن تأثير سائر المَخْلوقاتِ الحيّة والتي تقطن الكوكب. في بَعض الأحيان برر هذا التأثير وِجهة نَظَر تَمِيل إلى الهَيْمَنَة والسّيْطَرَة على الطّبيعة مَدْعومَة بِمفاهِيم للتّمَلُّك والسِّيادَة. ومَع اِزدياد أَعداد الأَشخاص المُدْرِكين لِلإرْتِباط المُتبادَل بين البَشريّة والبيئة، بَلّ واِعْتِماد الأُولى على الأَخيرة، فَقَد تَقَبّلُوا أيضًا أنّ تأثيرَنا الفَريد يَحمِل في طَيّاتِهِ اِلْتِزامًا وَوَاجِبًا حَتْمِيًّا لِلإِهْتِمام بالبيئة وحمايَتِها.

يأتي كُلٌّ مِنّا إلى هذا العالَم كَوَديعَة في أمانَة المُجتمع الإنْساني. فَكُلٌّ مِنّا في هذا العالَم مُعْتَمِد على الآخرين، وتَبَعًا، كُلٌّ مِنّا يَحْمِل جزءًا مِن مَسؤولية إصلاح المجتمع والكوكب الّذي نَعْتَمِد عليه. وهذا الإحساس بِالوِصاية لَا يَهدِف إلى تَجَاهُل وَقْع البَشريّة على عالَم الطّبيعة. فالاِحتياج الدائم إلى المَوارِد الطّبيعيّة أساسيٌّ لِحِفْظِ ولِتَقَدُّم الحضارة الإنْسانيّة. وإنّما يكون الهَدف هو تَوْجيه هذا التأثير بِرُشْدٍ وإبداعٍ وشَفَقَة.

وبينما نحن نَتَعلَّم عَن أفضل الطُّرق لاِستخدام الموادِ الخام المُسْتَخْرَجَة مِن الأرض وأساليب تَسْخيرها لِلمَصْلَحَة العامّة، لَابُدّ وأنْ نَكون على وَعيٍ بِطُرُق تَفْكيرَنَا تِجاه مَصدَر بَقائنا. وأيضا َيجِب على مُمَارَساتِنا أنْ تَعْكِس حَقيقَة أنّ ثَرَوات الأرض وعناصرها الباهرة ملكٌ مُشْترك لجَميع البَشر ويَسْتحقون حِصَّتَهم مِنها بِعَدلٍ وإنْصاف. ومِن الضّروري أنْ تُظهِر اِختياراتُنا على كُلِّ مُستويات صِناعَة القَرارات مَنْظورًا مُتَعَدِّد الأجيال يَضَع في الإعتبار إزدِهار سُكّانِ الأرض في المستقبل. ففي هذه الفترة المُضّطَرِبَة مِن تاريخ البَشريّة، أصبح ضَروريًّا أنْ تَزْداد تَقْوِيَة جُهُودِنا بِالحِكْمَةِ وحُسْنِ التّقْدِير الناتِجان عن الاِزدياد في النُّضج.

"هل هناك أيّ عمل في هذا العالَم أَسْمَى مِن خِدمَة الخير العام؟ ... لا ورَبّي المعبود" 

متَرّجَم مِن الكتابات البهائيّة المقدّسّة


إنسانيّة واحِدة في وَطَن عالمَي واحِد

مِن خِلال رُؤية واسِعة تَشْمَل العالَم بِأَسره، لَا يُمكن أنْ نَرى البَشريّة إلّا مِن خِلال مَنظور شَعبٍ واحدٍ يعيش في وطنٍ عالميٍّ واحِد. فالوَعي بهذه الوِحدة والّذي يَظهر مِن خِلال العلاقات العادلَة يُشَكِّل الأساس الوَحيد الّذي يُمكِن بِناء المجتمعات المستديمة عليه.

يَحتْفَل كُلُّ شَعبٍ، بِطَرِيقَتِهِ الخاصّة، بِالجَمال اللّا متناهي والبَهيّ للطّبيعة. فعادات كُلّ ثقافة تُقَدِّم التّقدير اللّائق لِهذا التُّراث الثّمين والّذي لا يُدعم الإحتياجات العُضويّة للأفراد فحسب، بَلّ والخِصال السّامِية للرُّوح أيضًا. فمُهِمَة بِناء عالَم مُسْتَديم ومُزْدَهِر تَحْوي في طَيّاتِها الوَعد بإيجاد نُقْطَة لا تَتّحِد فيها المَجهودات المُشتركة فحسب، بَلّ وأيضا الإحتفالات المبهجة.

إنّ إقرارَنا بِوِحدَة البَشريّة لا يَعني فقدان التّنَوُع في أساليب التّعبير أو الثّقافات أو المؤسّسات الاِجتماعية. فمَبدأ الوِحدَة يَحوِي في ثَناياه مَفهوم التّنوع وهو أساسي ويُفَرِّقُه بالتأكيد عَن التّطابق. ففي عالم الطّبيعة، تَزْدَهِر الأَنْظِمَة مِن خِلال تفاعُلات عناصر على دَرجَة كَبيرَة مِن التّنوع مع بعضها البعض، حيث تكون الاِختلافات بَيْن هذه العناصر سببًا في تَحسِين الكِيان العُمومي بِأَسْرِهِ، وتُعَزِّز قُدْرَة تَحَمُّل النِّظام كَكُلّ.

مُهِمَة بِناء عالَم مُسْتَديم ومُزْدَهِر تَحْوي في طَيّاتِها الوَعد بإيجاد نُقْطَة لا تَتّحِد فيها المَجهودات المُشتركة فحسب، بَلّ وأيضا الإحتفالات المبهجة.

نَرَى في الشُّئون الإنْسانية أنّ التّنوع في الفِكر والخَلْفِيّة والاِتجاه مُتَساوٍ في الأهمِّيّة. ومِن خِلال التّفاعُل بَيْن الرُّؤَى والتَّجارُّب المُختلِفَة تَتَأسّس دَرَجَة أعلَى مِن الحقيقَة تُؤدِي إلى ِإكْتِساب البَصائر. وعلَى العَكس فإنّ الوَفْرَة الزّائدة في وُجهاتِ النّظر المُتَماثِلَة، كَوُجْهَة نَظر الاِعتِماد المُفْرِط على مَصدَر طَبيعي واحِد، يُمكن أنْ تُعَرِّضِ النِّظام بأكملِهِ لِلخَطَر ويُصبِح عُرضة لِلاِنهيار.

إنّنا بِحاجَة دائمة إلى المُساهَمات الُمتّحِدَة وذات التّنسِيق العالي مِن عَدَدٍ مُتزايد مِن المجتمعات حتّى نَتَمكّن مِن اِسْتِرجاع تُوازُن العِلاقَة بَيْن البَشريّة وعالَم الطّبيعة. وأيّ اِفْتراض بأنّ إحدى المجموعات مُمَيَزة عَن مجموعة أُخرى بِسبب الجِنسيّة أو العِرْق أو الثّرْوَة أو أيّ صِفة أُخرى لَنْ يُسبب إلّا مَحوّ الأَواصِر المطلوبة لتأسيس الوِحدة في الرأيّ ودَعْم العمل المُنَسّق. فالشُّعور بالاِختلاف عن الآخرين دائما ما يُضعِف الرّغبة في العَمَل مِن أَجْلِ الصّالِح العام سَواء كان العمل اِجتماعي أو بيئي.

لَقَد عانَت البَشريّة كثيرا في فَهْمِهَا لِلتّنَوُّع أثناء جهودها في بِناء الوِحدة وتأسيس اِحترام الجُزء وحِمايَتِهِ مِن خِلال الاِعتماد على قُوّة الكُلّ المُشارِك. وتَمْنَحنا الوِلاية على عالَم الطّبيعة طُرُقًا فَعَالّة لِتأسيس التّوافُق بَين تِلك الأجزاء المتداخلة.

تَمْكِين أَنْصار التّغيِّير البنَّاء

يَسْتَحِق كُلّ سُكّان الأرض فرصة الاستمتاع بثمار مجتمع عالَمي يَتَقدّم بِتناغم مع عالَم الطّبيعة. ولِبِناء مجتمع كهذا، يَجِب تَمْكِين الأفراد في كُلِّ مَكان لِيُساهِموا في العمليات البنّاءة الهادِفة إلى تأسيسِهِ. ولِذا يُصبح بِناء القُدْرة لَدَى الأفراد والجماعات والمؤسَّسات لِلمُساهمة الفعَّالة في التّغيِّير المُبَدِّل عُنصر لا غِنَى عنه في العمل البيئي الحيوي.

,هذا، على مُستوى الفرد، يَعني تأسيس عَدد مِن القُدُرات المُتداخِلة العِلْميّة مِنْها والتِّقَنِيّة والاِجتماعيّة والأخلاقيّة والرُّوحانية. فمِن المُحَتّم أنْ يمتلِك الأفراد فِهمًا لِلأفكار ومَعرِفَة بِالحقائق وخِبرَة بالطُّرُق والمَهارات والتّوَجُّهات الضّروريّة لتأسيس أنماط أكثر رُشدًا ودَيْمومَة لِحياة الفَرد والمُجتمع.

أمّا على مُستَوى الجامعات المحلية، فبِناء القُدْرَة يَعني الإثراء والتّشْكِيل الواعي للثّقافَة. فيَقع علَى عاتِق المجتمع تَحدِّي إنْشاء بيئة إجتماعية يَمكن فيه مَزْج اِختيارات الأفراد، ومُضاعَفَة قُوَاهم وإظهارِها في إطار عمَل جماعي واحِد، ويَعرِض أيضا تَعابيرًا رُوحانية راقيّة للرّوح الإنسانيّة يستدل عليها بالأساليب الجديدة لترتيب شؤون المجتمع.

ومِن الضّروري أيضا الاِهتِمام بِتَقْوِيَة هياكِل المؤسّسات. فالحاجَة ستكون ضرورية لِمؤسّسات على كُلّ المُستويات لها قُدُرات تَكُون بِمَثابَة قَنَوات تَتَدَفَّق مِن خِلالِها طاقات الأفراد والمجموعات لِخِدمَة الصّالِح العام.


"علينا أن نضع في كلّ حين أساسًا جديدًا ونصنع صنيعًا بديعًا ونروّجه لسعادة البشر."

(متَرّجَم مِن الكتابات البهائيّة المقدّسّة)

 

اِقتراحات لِلبَحث

إنّ الوقائع البيئية المُلحّة تَتَطلَّب مِن البَشريَة دمجًا مُتزايدًا في الخِبرة بين المبدأ والفعل، مُكتَسِبا لخبراته مِن عمليّة مَنهجِيّة هَدفُها التّقَدُّم. ومِن الضّروري اِتخاذ خُطُوات بَنّاءَة في أَسرعِ وقتٍ مِن خِلال الأَنْظِمة الحاليّة، وبالرّغم عَن ضَعفِها، وفي نفس الوقت، توضع الأساسات الّتي تَعْكِس النّماذِج الجَديدَة لِلفَهم ولَها القُدرَة على تَلْبيَة مُتَطَلِّبات عَصرنا الحالي بِشكلٍ أفضل، رهن التطبيق. ومِن أَجْلِ الوُصول إلى هذه الغاية، تَمّ طَرح الكَثير مِن الاِقْتراحات عَبْرَ هذه الوثيقة ولِغَرَض الاِستكشاف، حافِزُها تِلك الأوقات الّتي لَمْ تَتَخيّل الجامِعة العالَميّة عالَمًا أفضل فحسب، بَلّ حتّى بادَرَت بِالعمَل والسّير في طُرُقٍ لَمْ تَسْلُكْها مِن قَبْل. إنّ مِثلَ هذه الخِبرات العَملِيّة تَمْنَح البَصائر حول ما يُمكِن الوُصول إليه عِندما يَتِمُّ السّماح للإجراءات الضّروريّة والتّوافُقيّة بالسُّمُوِّ عن الآراء السائدة الّتي تُعيق الحركَة في اِتجاه التّغيِّير البَنّاء.

فأحد وسائل تعزيز مبدأ وِحدة الإنسانية هو إنشاء آليّات تَقوم بِتَقْيِّيم التّأثيرات العالَميّة للسِّياسات المَحَلِيّة. فعلى سبيل المثال، تقوم هيئة اِستشاريّة دوليّة مُتّفَقٌ عليها بِتَقيِّيم تِلك التّأثيرات عَبر الحُدود الوَطنيّة وتُقَدِّم اِقتراحات بالتّعديل أو الرجوع عن سياسة ما حَسَب ما يَتَطلب الأمر.

وفي ظِلِّ الهياكِل الحالية تُصبِح تَقوِيّة الإطار القانوني المُرتَبِط بعالَم الطّبيعة سببًا لِزيادة التّناغُم بَيْن التَّنَوُّع الحَيَوي والمَناخ والأنظمة البيئية وهو ما سيُوَفِّر أيضًا أُسُسًا أَقوَى لإدارة مُشٍتَركَة لِكوكب الأرض. فَضَمّ الهياكِل الحاكِمة بِهذه الطّريقة هو في مُتناوَل الجامِعة الدوليّة، وسُتُقَدِّم التّجارُب السّابِقَة، سواء كانت تَتَسِّم بالتّقَدُّم أو عانت مِن الإخْفاقات، أُسسًا قيِّمَة يُمْكِن التّعلُّم مِنها. فهُنا تُصبِح الجُهود اللّازمة لِزيادة الاِتساق بَيْن مَجالاتِ حِفظِ السّلام والتّوَسُّط وحُقُوق الإنسان وإعادة التعمير والتّنْميّة طويلَة الأَمَد (مثلا مِن إنشاء هيكل بناء السّلام للأمم المتّحدة إلى جدول الأعمال الجديد المقترح للسّلام)، كلها تَحمل دُرُوسًا أولية حَوْل شَكْل عَمليّة التَنسِيق بين الجُهود ذاتِ الصِّلة. 

الإجماع على خَطَوات العمَل

سوف يَتَطَلّب نَقل البَشريّة إلى علاقة أكثر اِسْتِدامة واِنْسِجامًا مع العالَم الطّبيعي إجماعًا قويًا وقابلًا لِلتّنفيذ، إلى جانب إرادة جماعية حَول مبادئ رَئيسيّة سَتُشَكّل مِنها شؤون المجتمع الدّولي. وبِالْفِعل تَمّ خَلق مُستوى مِن الاِتفاق حَول مبادئ تأسيسِيّة مِثل الإدارة والتّضامُن والعدالَة. لَكِن مِثْل هذه المُثُل لَمْ تَتَرَسّخ بَعد باعْتِبارها الأَساس المَقْبول لِلعمل الجَماعي العالمَي.

فاِفْتِقار وُجود خِطَط قَوْميّة كافية لإنْقاص مُعدّلات اِنبعاث الكَربون حَسْبَما سُجِّل في مُعاهَدة باريس عام 2015 وحتّى الآن هو مِثالٌ واضِحٌ يَجِب أَخذه بِعَيْن الإعتبار. فهُنا تُشير هذه الفَجْوّة بَيْن الخِطاب والعمَل إلى تحدٍ أَعْمَق، أَلا وهو أنّ مَبادئ مُرْتَبِطَة بِالاسْتِدامَة البِيئيّة لَمْ يَتِمّْ غَرْسَها بِعُمقٍ كافٍ في الوَعي الجَماعي لِتتشَكِّل بها إِختيارات وسُلُوكيات الأُمم.

فإجماع إستَتَب بِحَقّ لَا يَظْهر بِالإِسم والتّعريف علَى وَرقٍ فَحَسْب، وإنّما يَظهَر مِن خِلال العمَل المُنَسّق والمُتَعاوِن، فَمَحَكّه الأَفعال ولَيْست الأَقوال. هُنا يُساعد الاِلْتِزامُ القَويّ بِالْقِيَم والمَبادِئ الرّئيسِيّة علَى المُسْتَوى الدّولي، القادَة الوَطنِيِّين والمَحلِّيِّين في التّغلُّب على الحواجِز الّتي تَنْشأ لَا مَحالَة في تَنْفِيذ التّغيِّيرات اللّازمة. ويُوضَّح هذا الاِلْتِزامُ لِلدُّول المبرر لتزوِيد بَعضِها البَعض بالمَوارِد اللّازمة لِتَنْفيذ الاِتفاقِيّات. ويُساعِد المُجْتمعات على تَجاوُز الاِعْتِراضات السّابِقة القائمة على المصالِح المَحدودَة أو الّتي تَخدِم إهتماماتها الذّاتيّة.

" فإجماع إستَتَب بِحَقّ لَا يَظْهر بِالإِسم والتّعريف علَى وَرقٍ فَحَسْب، وإنّما يَظهَر مِن خِلال العمَل المُنَسّق والمُتَعاوِن "        

لَمْ يَعد مِن المُمْكِن أنْ يُطلَب مِن شُعوب العالَم أنْ تَتَحمّل عِبء فَسْخ الإِتِّفاقيات المُوقّعَة والّتي تُتْرَك دُون تَنْفيذ. فالعَمَل يجِب أنْ يَكون مُتّسِقًا مع المبادئ الّتي يَتَبَنّاها ويُدافِع عَنها الجميع. ولذا من الضّروري وَضع النِّظام الدّولي على أُسس تُسَهِّل بِشَكلٍ فعّال اِسْتِجابَة الكَوكب أمميا لِتَحدِّيات الكَوكب كله.

اِقْتِراحات لِلبَحث

يُمْكِن تَرّجَمة الإجماع حَول الأَهداف العالميّة، مِثل أَهداف التّنميّة المُستَدامة (SDGs)، بِشَكلٍ أَقوَى إلى عَمَل مِن خِلال تَشْكِيل المَشُورَة حَول الاِعتِراف المُشتَرك بأنّ كُلَّ بَلَدٍ لَا يَزال لَدَيْهِ الكَثير لِتَعلَمُه حَول دَمْج الضّرورات المُتَساويّة الأَهمِّيّة، كالإسْتدامَة البيئيّة والتّنميّة. قامَت بَعض الدّول بِتأمِين مُستويات عالية مِن التّنميّة المادِّيّة لِلعَديد مِن مُواطِنيها، ومع ذَلك تُمارِس أذاً بيئيًا غَير مُتَكافئ مِن حَيْثُ المَوارِد المُسْتهْلَكَة والنِّفايات المُتَوَلّدة. ودُول أُخرى بالرغم أن لَها بَصْمة بيئيّة أَكثر توازنا، ولَكِنّها لَا تَزال بِحاجَة إلى تقدم مادّي كَبير لِتلبيَة الإِحتياجات الأساسيّة لمُواطِنيها. 

فالهَدَف الّذي يجِب أنْ تَعمَل كُلُّ دولةٍ مِن أَجْلِهِ هو رَفاهِيَة جميع المجتمعات مِن خِلال وسائل تَضْمَن عِلاقات مُستدَامة ومُتجانِسة مع البيئة الطّبيعيّة. فالتّركِيز على هذا الهَدف العالمَي مِن شَأنِهِ أنْ يُوفِّر نُقطَة وِحْدَة مُهِمّة يُمْكِن حَوْلها أنْ يُتَرّجَم الإجماع إلى عَمَل مشترك هادِف.

يُمْكِن أنْ يُساعِد بِناء إجماع قابِل لِلتّنْفيذ حَول المَعايِّير الأَخلاقيّة والمَعنويّة، في ضَمان اِختيار أَوْلَوِيّة المَبدأ قَبل الرِّبح، جنبًا إلى جنب مع المعايِّير المَناخيّة والبِيئيّة. هذه لَيْست بِمَنْطِقَة يَجْهَلُها المجتمع الدّولي. ويُمكِن اِستِخْلاص دُرُوس قَيِّمة مِنها، ومثالا لذلك هي عَمليّة إصدار الشِّهادات الّتي أنشأتها الأُمَم المُتّحِدَة لِلحَدِّ مِن تَداوُل المَاس المُتّصِل بِالعُنْف. فبالرّغم مِن أَوْجه القُصور في تطبيق هذه العَمليّة، فإنّها تُمثِّل مَوْقِفًا تَوافَقَت فيه الآراء حَول العوامِل الأَخلاقيّة والاجتماعيّة وتَمَّ تَرّجَمَتُه إلى مَقايِّيس مَلْموسَة لِلتّحليل والتّعديل عبر المراحِل المُختلفَة لِسلْسِلَة تَقيِّيم سِلْعَةٍ معينة.

إعادَة تَعرِيف التّقدُّم

إذا ما تَمّ إعادة تَشْكِيل العِلاقَة بَين البَشريّة والطّبيعة، فإنّه يجِب إعادة تَعريف مَفاهِيم التّقدُّم والحَضارَة والتّنْميّة. وأيضا من الضروري توسيع وتعزيز الجُهود في هذا الصدد، مِثل وَضع مِيزانِيّات تَتَمَحوّر حَوْل رَفاهِيّة المجتمع، وتَقديم مُؤشِّرات أكثَر شُموليّة للإنتاج دون الإعتماد على مقياس الناتِج المَحلِّي الإجمالي فقط، وأيضا فحَص الأسئلة المحورية في هذا المجال بِشكْلٍ أكبر. مثل، ما هي الصِّفات الّتي يَتِمُّ مِن خِلالِها الحُكم على شَخص أو أُمّة أو شَرِكَة بأنّها ناجِحة؟ ما الّذي مِن أَجْلِه يُثْنَى عَلَيهم ويَلْقَى التّقدِير؟

طالما مايَتِمُّ الرّد على هذه الأسئلة وِفْقًا لِلقِيَم الّتي تُعْطِي الأَوْلَوية لِلمُمْتَلكات قبل العِلاقات أو الكسب قبل المسؤوليّة، فَسَيَظَلّ العالَم المستدام بَعيد المَنال. إنّ مِثل هذه القِيَم، بِحُكْمِ طَبيعَتِها وتأثيرها علَى الرُّوح البَشريّة، تُومِئ بإصرار إلى الإفْراط والاِسْتِغلال والإستنزاف. كما أنّها تُؤدِّي إلى تَفاقُم مُتَطَرِّف في الهوة بَين الثّروة والفَقْر المُنْهِك. وفَقَط بِالدّرَجَة الّتي يَتِمُّ فيها وَضْع هذه القِيَم جانبًا، يُمكِن حَلّ التّناقُضات العَميقة الّتي تُسَبِّبُها، ولَيْس مِن أَقَلّها على سبيل المثال تَوَقُّع نُمو غَير مَحدود على كوكبٍ مَحدود. ففَقط عِندما يُفهَم التّقدُّم بِشُروطٍ جَديدَة، يُمكِن تَحديد الدَّوافِع الأساسيّة للأَزَمات البيئيّة الحاليّة بِدِقّة وتأْسِيس تَغيِّير مُسْتَديم.

وهنا يَتَحَتَّم الاِعْتِراف الواضِح بِأنّه لَمْ يُتْقِن أيّ بَلْد حتّى الآن عَمَليّة التّنْميّة المُسْتَدامَة. وغالبًا مايَتِمُّ رَبْط ِالتّنْميَة بأَشْكالٍ مُعَيْنَة مِن التّصْنِيع والكَفاءَة التِّكْنُولوجِيّة والنُّمو في الاِقْتِصاد الكُلِّي. لَكِن اِسْتِياء وصعوبات الجُمُوع الذين يَعِيشُون في مَناطِق تُعْتَبَر تَقْلِيديًّا مُتَطَوِّرَة، بما لا يَقِلّ عَن المَظالِم الّتي يُواجِّهُها العَديد مِن السُّكَّان الآخرين في جَميع أنْحاء العالَم وِالضّغطِ علَى عالَم الطّبيعة، يُثْبِت أنّ هذه الرُّؤيَة غَيْر مُكْتَمِلَة في أَحسَن الأَحوال، بَلّ وغالِبًا ما يَكُون ضَرَرِها عميقا. لَا يُوجَد نَمَطٍ لِلحياة أو رُؤيَة نَموذجيّة واحِدة في أي مجتمعٍ يُمكِن أَخْذِها كَقُدْوَة تَتَطَلّعُ البَشريّة جَمْعاء إلي إقتفائه.

إعادة التّفْكير في التّرتِيبات الاِقتصاديّة

أَدّت التّرتِيبات الاِقتصاديّة الحديثة إلى تَدَهْوُّر النُّظُم البيئيّة وإفقار العديد مِن المُجْتَمعات المَحليّة وحَيوات الأفراد. إنّ اللّا مُساواة آخِذَة في الاِرتفاع والضَرَر المُتأصِّل في خَلْقِ وإشباعِ الرّغَباتِ الدّائِم قَدّ تَمّ إثْباته بِما لَا يَقْبَل أيّ اِعتِراض. وهُنا يَتَطَلَّب وَضْع العالَم على أُسُسٍ أكثَر اِسْتِدامَة مِن النّاحِيَة البِيئيّة لإعادة صياغة النِّظام الاِقْتصادي العالمَي. فَالبَشر وكذلك الكوكب بِحاجَة إلى أنْ تُقَيَّم أَهمِّيَتِهم بِوُضوحٍ وجَلاء وبِنَفْسِ الدرجة الواضحة الّتي حازَ بِها تَقْيِّيم الرِّبح والعائد الاِقتصادي في السابق. 

بما أنّ الاِخْتِلَالَات الحالِيّة في التّوازُن مَدْفُوعَة إلى حَدٍ كبير بأشكالٍ عديدة مِن الإسْرافِ، ولذا فإنّ مَبدأ الاِعتدال سَيْحتاج إلى صِياغة أَكمل في التّرْتِيبات العالمَية. فمِنَ الضّروري اِسْتعِادَة وتَوْسِيع مَفاهِيم الرِّضا، والاِكْتِفاء، والبَساطَة، والّتي لَا تَجِد مَكانًا يُذكْر الآن في الأَنْماط الّتي يَزْخَمُها النُّمو. وعليه فإنّ أنْماط الحياة الّتي أَصبحت مُقْتَرِنَة بِالثّراءِ الفاحِش مِثل التّمادي في الرّاحَة والرّفاهِية أو الاِستهلاك والهَدْر، يجب نبذها. وتعاد صياغة المَفاهيم الأساسيّة لِلتّقَدُّم والتّنْمِيَة والاِزْدِهار بِمُصْطَلَحات أكثَر شُمُولِيّة بِكَثير.

سَيَتَطَلَّب التّحَرُّك نَحو هذه الأَهداف تَرْتِيبات اِقتصاديّة مُنْضَبِطَة وِفْقًا لِقَيَمٍ أَعلَى مِن أَهدافِها الفَردِّية. فالخِبْرَة العَمَلِيّة لِلأفْراد والمجتمعات والشّرِكات والأُمَم لا تَتْرُك مَجالًا لِلْشَكّ: هُناك بُعدٌ أَخْلَاقيّ مُتَأْصِّل في تَوْلِيد وتَوْزِيع واِسْتِخدام الثّرْوَة والمَوَارِد.

تُعاني الحَياة الجَماعيّة لِلإنْسانِيّة عِندَما تُفَكِّر أيّ مَجْموعة في رَفَاهِهَا بِمَعزَل عَن رَفاه جِيرانِها، أو تَسْعَى لِتَحقيق مَكاسِب اِقتصاديّة دُون إعْتِبار لِكَيْفيّة تَأَثُّر البِيئَة الطّبيعيّة. كُلّ خَيار يَتْرُك أَثَرًا. ِلذلِك يجِب اِتِّخاذ القَرارات الاِقتصاديّة وِفقًا لِمُثُلٍ ساميَة. فالثّرْوَة يجِب أنْ تَخْدِم الإنْسانيّة. ولَا يُوجَد مُبَرِّر لِلاِسْتِمرار في تأيِّيد الآراء والهَياكِل والقواعِد والأَنْظِمة الّتي تَفْشَل بِشَكلٍ واضِح في خِدمَة الصّالِح العام.

"إنّ تَرتِيب أَحوال الأَفراد يجِب أنْ يُؤدِّي إلى زَوالِ الفَقر وأنْ يَتَشارَك الجَميع على قدر الإمكان في الرّاحة والخَيْر العام..." 

-مُترّجَم مِن الكتابات البهائيّة المقدّسّة

ستَتَطَلّب صِياغَة مَفهُوم أكثَر شُمولِيّة لِلتّقدُّم فَهمًا مُوسّعًا لِأَنْفُسِنا كمخلوق، بِما في ذلِك الحقائق بِشأنِ الرُّوح البَشريّة نَفْسَها. لَقَد عانَى الكوكب وشُعُوبُه ومَخلُوقاتُه بِشَكْلٍ كبير مِن العَقْلِيَة المادِّيّة الّتي تَنْظُر إلى الفَرد علَى أنّه وِحدَة اِقتصاديّة ذات مَصْلَحة ذاتيّة بَحتَة، تَتَنافَس مَع الآخرين لِتَسْتَحْوِذ على حِصّة مُتزايِدَة مِن مَوارِد العالَم المادِّيّة. تَمّ رَفض هذا الرّسم الكاريكاتيري لِلفرد إلى دَرَجَة كبيرة على المُستَوَى النّظَري الجادّ بِاعْتِبارِهِ بَسِيطًا وبِدائيًا. ومَع ذلِك، لَا تَزال العديد مِن جوانِب النِّظام العالمَي تَعْتَمد على هذه الاِفتراضات، وغالبًا ما تُعَزِّزُها وتُعَمِّقُها.

سَيَشْمَل الفَهم الأَكثر دِقّة لِلطّبيعة البَشريّة صِفات وإتجاهات، مِثل الجَدارة بِالثِّقة والدّعْم المُتبادَل والتّمسُّك بِالحقيقَة والشُّعور بِالمَسؤولِيّة، وهي اللّبِنات الأساسيّة لِنِظامٍ اِجتماعيٍّ مُسْتَقِّر. وأيضًا سَيُوَلِّد هذا الفِهم نَماذِج تَتَجَنّب أو تُخَفِّف أَمراضَ المادِّيّة الاِخْتِزالِيّة والّتي تّضْمَن أنّ سَعْيِّنا لِتَحْقِيق الرّخاء يَشْمَل عَديد مِن الأبعاد الأُخرى لِلرّفاهِيَة الفَرديّة والجماعيّة. 

إنّ إعادَة تَعرِيف التَّقَدُّم لَا يَعنِي رَفْض أيّ إنْجازات فعلية تَمّت في الماضي، وإنّما يَعني تَوسِيع حُدود الإنجازات المُسْتَقْبَليّة. فالإمكانيّات أَمام البَشريّة هائلِة، مِن أساليبٍ جَديدَة لِلمِلْكِيّة والاِسْتِخْدام، إلى أشكالٍ حَديثَة لِلتّنْظِيم الحَضَري، وإلى الطُّرُق الجَديدَة لِلزِّراعَة، وتَوْلِيد الطّاقَة، والمُواصلَات. وهُنا، سَيَتَطَلّب إغتنام هذه الفُرص تَعبيرًا أَكْمَل بِكَثِير عَن ذُخْر الإمكانات البَشريّة الكامِن داخِل كُلِّ فَرد والجُهُود المُشْتَرَكة لِلإنْسانيّة كَكُلّ. فالعُقُود القادِمة، تَحْمِل اِحْتِماليّة أنْ تَكُون فَتْرَة غَنِيّة ومُجْزِيَة بِشَكلٍ اِسْتِثْنائي في تاريخ البَشريّة. وعلى قَدْرِ ما يَبدو أحيانًا أنّ حَجْم التّحَوُّل المَطْلُوب والغَيْر مَسْبُوق في العَديد مِن قِطاعات المُجتمَع أمرًا مَهِيبًا ألَا إنّه يَفْتَح إمكانيّات لاِزْدِهارٍ كبير في الإبداع والمُبادَرَة البَشريّة.

اِقْتِراحات لِلاسْتِكْشاف

واحِد مِن أَهدافِ التَنْمِيَة المُسْتَدامَة (SDG 17.19) يَدْعُو إلى تَطْوير مَقايِّيس إضافية للتّقَدُّم لإحصاء الناتِج المَحلّي الإِجْمالي. وهذا هَدَف جَديرٌ بِالاِهْتِمام أكده الأمينُ العام لِلأُمَم المُتّحِدَة ويَنْبَغي أنْ يَحْظَى بِالأَوْلَوِّيّة المَطْلُوبة وتَوْفير المَوارِد لِتَطْبِيقِهِ. فعلَى سَبِيلِ المِثال، يُمْكِن لِلتّجَمُعات الدّوليّة، المسجلة في جدول الأمم المتحدة أو الغير مسجلة، البحث في تلك المقاييس الإضافية مِن مَنْظُور التّركِيز على المواضيع الخاصّة بِكُلٍّ مِنها.

بالإضافَة إلى جَعلِ طُرُق القِياس أكثَر شُمولًية، يجِب أيضًا إعادَة النّظَر في المفاهيم الحَدِيثَة لِلتَّقَدُّم بذاته وتَعدِيل الكَثِير مِن جَوانِبِها. ولِلْوُصول لِهذه النَتِيجَة يُمكِن لِمَجْمُوعَة مِن الخُبَراء أو هَيْئَة مُماثِلَة البِناء على الجُهُود الوَاعِدَة الجَاريَة بِالفِعْل، وتَحْدِيد الأسئلة الّتي هي بِحاجَة لِلاِسْتِكْشاف، وَوَضْع بَدائِل، والتّعَرُّف على المَواضِع الجاهِزة لِلْعَمل. لَنْ يَكون الهَدَف مَجْموعَة واحِدة مِن النّتائج بَلّ عَمليَة تَحْقِيق مُسْتَمِرّة حَوْل ما يُمْكِن أنْ تَتَكَوّن مِنه حَضارة مُسْتَديمَة، وكَيْف يُمْكِن تَقْيِّيم مِيزاتِها وتَعْزِيزِها بِصُورَة مناسِبة. ومِن الأَمثِلَة الّتي تَتَضَمّن دُرُوسًا في هذا السِّياق هو تَبَنِّي بُروتُوكول مونتريال بِشأنِ الموادّ المُستَنْفِذَة لِطَبَقَة الأُوزون، عِندَما تَوَصَّل المجتمع الدّولي إلى إجماعِ واسِعِ النِّطاق بأنّ التّخَلُّص مِن الكيماويات الّتي دَمّرَت الغُلاف الجَوي سَيَخْدِم التّقَدُّم العالَمي أَفضل مِن العوائد المادِّيّة المُتَوَقّعَة مِن اِسْتِمراريّة بِيع هَذه المواد.

الاِنحياز إلى المبادئ الأَسْمَى

إنّ الوُجُود البَشري مَحْكُوم بِالقُوَى الفيزيائيّة وكذلك بالقوانين الاِجتماعية والأخلاقيّة المسببة والناتجة لوجوده. فالجَشَع بِطَبِيعَتِهِ يُفْسِد الصّالِح العام بِغَضّ النّظَر عَن مَدَى دَهاء تَبْريرُه أو إخفاؤه. في حين تَمْتَلِك الأَعمال الّتي تَتَّسِّم بالرّحمَة المُخلِصَة قُوَة تَشْجِيع وإلهام لِلآخَرين مَهما بَدَت بسيطة أو منزوية.

ومِن هذا المَنْظُور، إنّ الطّريق تِجاه عِلاقَة أَكثَر تَناغُمًا مع الطّبيعة لَا يُمْكِن سلكه مِن خِلال تَعدِيل تِكنُولوجي فحَسْب، بَلّ يَجِب أنْ يَشمل أيضا تَعلّم جامعات ومجتمعات الحَذْوِ بالمبادئ الأسمى.

إنّ إطْلاق العَنان لِلخِصَال الساميّة والكامنة في كُلِّ فَردٍ هو الشِّغَل الشَّاغِل لِلتّعاليم والمُثُل الدّينية عَبْرَ آلافِ السّنين. لَا يُمكِن أنْ نُنْكِر كَيْف قَوّض التّشَدُّد والتَّعصُّب الطائفي الضّرورات الأخلاقيّة الّتي تَكْمُن في صميم العديد مِن هذه التَقالِيد الدِّينية. ومع ذلك، فإنّ المجتمعات الّتي تَعمَل بِنشاط مِن أَجْلِ وَضعِ القِيَم المُتَسامِيَة مَوْضِع التّنْفيذ، مِن أجْلِ خَيْرِ الجميع، تُمَثِّل مَخْزُونًا مِن الخِبرة جَدير بالاِهْتِمام الجادّ.  

يؤكد حضرة بهاء الله أنّ "فَضْل الإنْسان في الخِدمَةِ والكَمال لَا في الزِّينةِ والثَّرْوةِ والمال" مانِحًا بذلك مِثالًا مِن عَديد مِن الأَمْثِلَة لإحدَى الطُّرُق لِتَعرِّيف الهَوِيّة الشّخْصِيّة والتّفاعُل الجماعي القائمين على قِيَم تَتَجاوَز الاِزْدِهار المادّي وَحدَه. كَيْف يُمْكِن لِمِثْلِ هذه المُثُل العُليا أنْ تَتَغَلّغَلّ في تَفكير وسُلُوك عدد مُتزايِدَ مِن الأفراد؟ وكَيْف يُمْكِن تَعْزيز وتَسْرِيع هذه العمليّة بإنتباه وإدراك؟ هذه أسئلة ذاتَ أهمِّيّة مِحْوَريَة لِلحَرَكَة البيئيّة والإنسانية كَكُلّ.

اقتراحات للاِستكشاف

لازالَ هُناك الكَثير لِنَتَعَلّمه عن نماذج المجتمعات الّتي تُولي الأَوْلَوِيّة للمبادئ الأخلاقيّة وتَتَبَنّى تَقَدُّمِها وتَطْبيقَها بِشَكلٍ فعّال في مُجْتَمَعِها بِأَسْرِهِ. وبَدَلًا مِن مُجَرّد البَحث عَن الحُلول الجاهِزة، فإنّ إنْشاء نُقطة محوريّة في كُلِّ هَيْئَة للأُمم المتّحدة للتّعلُّم عَن التّطْبيق العَمَلي للمَبادئ الأخلاقيّة والسُّلُوكيّة قَدّ يُوَلِّد مَعرِفَة حَول كيفية تعزيز التّقدُّم عَبْرَ النّطاق الشّامِل للتّجارُب الإنسانيّة.

ويُمْكِن العُثُور على بَديلٍ واضِحٍ لِنَموذَج التّقدُّم المادّي بِمُفرَده في الأهمِّيّة الّتي تَضَعَها جماهير حول العالَم في سُمُوِّ الرُّوح البَشريّة واِرتِباطِها بِما هو مُقدّس ورَبّاني. فَالكَثير يُمكِن تَعَلُّمه مِن بَحْثٍ مَنَهَجِيٍّ وعِلْمِيٍّ في مجتمعات تَتَعلّم تَطْبيق المبادئ الرُّوحيّة، مِثل نُكْران الذات، والتّحالُف مع الآخرين، والإشراف على العالَم الطّبِيعي، لِتَعزيز التّقدُّم الاِجتماعي واسع النِّطاق. بِالإضافَة إلى مبادرات الأُمم المتّحدة المختلفة الّتي تُركِّز بِالفعل على المشاركة مع مُنَظَمات دينيّة، يُمكِن لِمِثل هذا البحث اِسْتِكْشاف مَصادِر بَديلَة لِلتّحفيز والإلهام، والأَثَر الّذي يُمكِن أنْ تُحْدِثَهُ على رَفاه المجتمع والبيئة.

الدّين والعِلْم: نِظامان مُتكَامِلان لِلمَعرِفَة والتّطْبِيق

في العَمَل لِبناء عالَمٍ أكثر اِستدامَة، تَمْتَلك البَشريّة تَحت تَصَرُّفِها نظامان مُتعاضِدَان لِلمَعرِفَة والممارَسَة: العِلْم والدِّين.

إنّ البَحث العِلمي أَداة مُهِّمَة لِمُحاولَة فَهم الواقِع المَلْموس ولِخَلْق حُلول مُبْتَكَرة مَبنيّة على السّعي وراء الحَقيقَة والاِلتزام بالتّعلُّم، وعِندما يَمْتَزِج العِلم مَع قِيَم مِثل تَجَنُّب التّعصُّب والتّحَيُّز، يسْتَطيعَ أنْ يُمَكِّن البَشريّة مِن التّفْرِيق بَيْن الحَقيقَة والوَهْم. ولَقَد سَمَحَت لَنا القُدْرات العِلْمِيّة، المُتَمَثِّلَة في مُراقَبَة الأَفكَار وقِياسِها واِخْتِبارِها بِدِقّة، بِبِناء فَهْمٍ مُتَماسِك لِلقَوانين والعَمليات الّتي تَحْكُم الواقِع المادِّي، بالإضافَة إلى اِكْتِساب رُؤَى حَوْلَ السُّلُوك البَشري وإدارة المجتمع. وبَعيدًا عَن كَوْنِهِ مجالًا لِلباحِثين والأكادِيميِّين وَحْدَهم، فإنّ مَنْهَجيّات البَحث العِلمي هي أَدَوات يمكن لأيّ فردٍ أو مجتمع اِسْتخدامِها.

مِن ناحِيَتِهِ، يُوفِّر الدِّين إطارًا يُمْكِن مِن خِلالِهِ تَطْبيق المُثُل العُليا في حَياةِ الأفراد وفي حَياةِ المجتمع، مِن أَجْلِ تَحسِين أوضاع الجميع. فساعدت المبادئ الرُّوحية الّتي تَبُثُّ الحياةَ في الأديانِ الراسِخة في العالَم أفرادًا وشعوبّا بأكملها على التّعامُل مَع مَسائل المَعنَى والهَدَف وطَبيعَة الحياة الصّالِحة والمجتمع الصّالِح. وعِندما يَكُون هناك صدق في تطبيق هذه المُثُل، فإنّ الدِّين يُوفِّرُ حِصنًا ضِدَّ أيْدِيُولُوجيات المادِّيّة الّتي مِن شَأْنِها أنْ تَخْتَزِل البَشر إلى مُجَرّد مَوارِد يُمْكِن اِسْتِغلالِها أو مُسْتَهلِكين يجِب إرضاءهم. لَمْ يَكْتَفِ الدِّين في أَقْصى عُلُّوِهِ بِرَفْعِ الدّعوَة إلى الفضائل مِثل النّزاهَة، وحُسُن الخُلُق، والعَزيمَة العالِية، والتّعاوُن، والعَمَل المُضَحِّي فحَسْب، بَلّ جَمَع أعدادًا مُتَزايِدَة حَوْل هذه المبادئ، وَوَحَدّ عَناصِر مُتَبايِنَة، وخَلَقَ مجتمعات مُتَمَاسِكَة تَعْمَل مِن أَجْلِ أنْ تَظْهَر المُثُل العُليا في أَفْعَالِها.

يُوَفِّر العِلْم والدِّين معًا مَبادئ تَنْظيميّة أساسيّة يُمْكِنُ مِن خِلَالِها تَحقِيق تَقَدُّم مُسْتَمِر، عِندَما يَتِمُّ وَضْع الأَبْعاد المادِّيّة والرُّوحيّة للإنسانيّة في الإعْتِبار، وإيلاء الاِهْتِمام اللّازِم لِكُلٍّ مِن المَعْرِفَة العِلْمِيّة والرُّوحية معًا، وتَجَنُّب الرّغْبَة في حَصرِ التّقَدُّم البَشري في اِسْتِهلاك البَضائع والخَدَمات والسلع التِكْنُولُوجِيّة. فالعِلْم والدِّين ضَرُورِّيان لِتَحرير الأَفراد والمُجْتمعات مِن شِراك الجَهل والسّلْبِيّة. كِلَاهُما حَيَوِي لِتَقَدُّم الحَضارَة. 

"الدِّين والعِلْم جَناحان يَطِيرُ بِهُما الإنْسان إلى العُلا وبِهُما تَتَرَقَّى الرُّوح الإنْساني"

مِن الكِتابات البَهائيّة المُقَدّسّة

العَدَالَة كعَملِية مستمرة ونَتِيجَة محصلة

تُعتَبَر قضايا العَدالَة مَركَزيّة لأيّ مَفهُوم حَقيقي لِلوِحدَة علَى مُستَوَى الكوكب. فهذه المُعاناة المُنْتَشِرَة نَتَجَت عَن عِلاقَة إسْتِخْراجِية للموارد بين اِلبَشَريّة وعالَم الطّبيعة، واِستفادَة قِلّة مُخْتَارَة مِن الاِسْتِخْدام المُفْرِط لِمَوارِد الأَرض على حِساب كثيرين آخرين، وأنّ الأَوْلَويات المُباشِرَة غالبًا ما تتجاوز الإحْتِياجات الأَساسيّة لِلأَجْيال القادِمَة، وكُلُها تَكْشِف عَن مَظالِم بالِغة لِلنّاس ولِلكَوكَب.

إنّ تَصْحيح مِثل هذه العِلَل يَتَطَلّب حِسابًا وتَقْديرًا صادِقًا جَنْبًا إلى جَنْب مع قُدْرات للإبداعِ والمُثَابَرَة والتّواضُع. وسَوف تَحتاج أَصوات أُؤلئك الّذين حَرَمَهم النّظام الحالي الظُّهُور بِشَكل أكثَر بُروزًا في عمليات صُنع القَرار على جميع المستويات. يجِب أَخْذ البَصائر مِن الشُّعوب الّتي اِسْتَدامَت فيها عِلاقات أكثَر تَناغُمًا مَع عالَم الطّبيعة والّذي يَعيش مِنهم الكثيرين في أماكِن أُخري غَير المراكِز الحَضَريّة. ويُمْكِن لِلفَهم الثّقافي المُتَنَوِّع لِعلاقَة البَشريّة بعالَم الطّبيعَة، خاصّة مِن أُولئك السُّكّان الأَصْلِيِّين، أنْ يُوَفِّر ما نَحْتاجُه مِن بَصائر لِخَلْقِ نماذِج أكثَر شُمولًا واِسْتِدامَة للأجيال الحاليّة والمُقْبِلَة. 

تَتَطَلّب العَدالَة مجموعة واسعة من النَتائِج، مثل التّوزيع العادِل لِفوائد الحَضارة البَشريّة، أو تقسيم المسؤوليّة عَن إجراء التغييرات الضّرُورِيّة في ضوء المسوؤليات التّاريخيّة لمسببي أَزْمَة المَناخ الحاليّة. ولَكِن العدالة في النَتائج تنشأ فَقط بَعد تَطْبِيق العَدَالَة على مُسْتَوى العَمليّة المستمرة ذاتها. فعلى مُسْتَوى الفرد، تَتَطَلّب العَدالَة عَقْلِية عادِلَة في أَحكامِ الفَرد والإنصاف في مُعامَلَتِه للآخرين. وعلَى مُستَوى المجموعة، فالعَدَالَة هي التّعبير العَمَلي لِلوَعْي الإنْساني في أنّ مَصالِح الفَرد ومَصالِح المُجتمع مُرْتَبِطَة اِرتباطًا وثيقًا. كما تَتَطَلّب العدَالَة أيضًا مِعيارًا لِلبَحثِ عَن الحَقيقَة يَتَجاوَز بِكَثير أَنْماطَ التّفاوُّض والتّسويّة الّتي تَتّصِفُ بها العلاقات الحالية، فَيَتِمُّ البَحث مِن خِلالِ عَمليَة تَشاوُر وبِناء قرار تكون مُتّسِمَة بالمبادئ والصّراحَة والاِعْتِماد على الحَقائق.

وعلى جميع المُستويات، فإنّ القُدْرَة على إظْهار العَدَالَة والاِلْتِزام بِتَطْبِيقِها يجِب أنْ يَزْداد تَعزيزها. فالعلاقات العادِلَة والمُنْصِفَة أساس لا غِنَى عَنه لِأيّ حركة عالميّة مُتّحِدَة تَسْعَى لِتَحقيق الصّالِح العام.

اِقتراحات للاِستكشاف

تَتَطَلّب العَدَالَة التّرابُط بَين القَوْلِ والفِعل، ولذلك يجِب على الجامِعة العالَمية، بالإضافة إلى تشكيل هيئات جديدة وإبرام اِتِّفاقيّات حديثة، أنْ تَجعل الاِلتزام بإيفاء جميع الوُعود الّتي تَمّ قَطْعَهَا حَجَر الأَساس لِكُلّ جُهُودِها المُستقبليّة، وبذلك تُساعِد الجامعة في إعادة بِناء مَخْزون مِن الثّقة بَعد أنْ اِسْتُهْلِك تمامًا في السّنوات الأخيرة، الثِّقة في السُّلُطات المُنْتَخَبَة، والثِّقة في وَسائل الإعلام، والثِّقة في الكَشْف العِلْمي، والثِّقة في الاِلتزامات الّتي يَعِدُ قادّة العالَم بالقيامِ بِها.

وضِمن الهياكل الحاليّة، يُمكِن جَعل التّرتيبات العالَمية أكثَر عَدلًا مِن خلال إنشاء وسائل لِقياس وصُنع نماذج لِلتّأثيرات الّتي سُتُحْدِثُها السياسات المقترحة في المستقبل. ومِن شأن هذا التّوَجُّه التّطَلُّعي (كما رأينا على سبيل المثال في اِقتراح مَبعوث الأمم المتّحدة الخاص للأجيال القادمة) مَع الاِنْتِفاع مِن الدُّروس المُستفادَة مِن المَحليّات الّتي أَرْسَت مِثل هذا النّهَج، أنْ يُفْصَل صُنع القَرار عَن المَصالِح الضّيِّقة لِصانِعي القَرار، وإعطاء الأَوْلَوِّيّة على المَدَى المُتَوَسِّط ​​والطّويل لِلحُقوق والرِّعاية المُتَزِنَة. 

التّعلُّم كَمَنْهَج لِلعَمَل

لَمْ تَحْظَ حَضارَة عالَمية واحِدة بِعلاقَة مُسْتَديمَة مع عالَم الطّبيعة. وإرساء أُسس عِلاقة كهذه في مناطق عَديدَة، لِيَعكِس نِطاقًا واسِعًا مِن الظُّروف الاِجتماعيّة والبيئيّة، سَيَتَطَلّب عَمليّة تَعَلُّم على نِطاقٍ عالَمِيّ. وقَدّ تَمّ تَحديد مُتَطَلّبات أساسيّة ومبادئ جوهريّة في العديد مِن المجالات، بِدءًا مِن الفَعاليات الملموسة إلى الأُطُر السياسيّة. ومع ذلك، فإنّ تَطبيقا حَكيما لِلمبادئ في مَواقِف مُعيّنة مِن التّحوُّل الاِجتماعي، هو شيء لا يُمْكِن تَعَلُّمه إلّا مِن خِلال التّجربة.  

فاِتِّخاذ التّعلُّم كَهَدَف مَركزي للعمل البيئي يَتَطَلّب عادات وسلوكيات معينة. وعند العمل مِن خِلال أُسلوب تَعَلُّمي، يَتِمُّ إعادة فَحص الرُّؤى والاِستراتيجيات مِرارًا وتِكرارًا. فَتَنْمو الخِطَط بِشكلٍ عُضْوِّي بمرور الوقت ويَتِمُّ تَعْدِيلها في ضُوء الإجراءات المُتّخَذَة والخِبرة المُتَوّلِدَة والدُّروس المُستفادَة. هُنا يُعرّف العمل كعمليّة مستمرة مَنهجيّة بَدلًا عَن أنْ يَتِمَّ تَعرِّيفُه بِواسِطَة الأَحداث والمشاريع فحَسْب. ومِن هُنا يَتِمُّ تَجَنُّب التّغيِّير العَشْوائي، وتَتَحَقّق اِسْتِمراريّة الجُهُود المَبْذولَة. 

يَعْتَمِد التّعَلُّم الحَقيقي على بَواعِث الجِهات الفاعِلَة ونواياها بِقَدْر ما يَعتَمد على الهياكل والعمليات المستمرة الرّسميّة. فمَثلًا مُؤتَمرًا دوليًّا يَتَّسِّم بالاِهْتِمام بالمَكانَة والسُّمْعَة، أو مَنْ يُحْسَب لَهُ أو يُلام، سَيُعاني لِكَيّ يُوّلِّد رُؤى مُفيدَة، بِغَضّ النّظَر عَن عَدَد الجَلَسات المُخَصّصَة لِتَبادُل أفضل الممارسات أو الدُّروس المُستفادة.

يَتَطَلّب التَّوَجُّه نَحوَ التّعَلُّم أيضًا فَهم دُور الأَخطاء والنَكَسات في مَسارِ التّقَدُّم. فَفي حِين أنّ المَنْهَج العِلْمي يَسْتَفيد اِسْتِفادَة كامِلَة مِن جَدَلِيّة التّجربة والخطأ، كثيرا ما تَسْتَنْزِف العمليات الدّوليّة في بحثها عن البرنامج النّموذَجي أو السِّياسة المثاليّة مِن بداياتها. يجِب أنْ يُسْتَبْدَل السُّلوك بِثَقافَة الاِسْتِكْشاف والبَحث الجادّ عن الحُلول المُناسِبة، مع الاِعتراف الكامِل بأنّ جَميع المَعْنِيِّين سَيُواجِهُون في بَعضِ الأحيان النّكسات ويَخْفِقُون في جُهُودِهم. التّواضُع هو مَدخَل التّعلُّم.

يُعَدُّ مبدأ التّشاوُّر أمرًا حيويًا لأسلوب التّعلُّم أثناء العمل، ويُفهَم على أنّه عمليّة بِناء إجماع حَوْل حَقيقَة المَوقِف وتَحديد المَسار الأكثر حِكْمة للعَمَل مِن بين الخَيارات المُتاحَة. خلال عملية المشورة، يَسعَى المشاركون لِتَجاوُز وُجْهات نَظرهِم الخاصّة والعمل كأعضاء في مجموعة واحِدة لها أهدافها ومقاصدها. ففي جَوٍّ يَتّسِّم بالصّراحَة واللُّطف، لَا تَنْتَمي الأفكار إلى الفرد الّذي نَبَعَت مِنه، ولَكِن إلى المَجموعة كَكُلّ، ولَا يَتِمُّ التّعامُل مع الحقيقة كَحَلّ وَسَط بين مجموعات المصالِح المُتَعارِضَة، ولَا تَدْفَع المُشاركين الرّغبة في السّيطرة على بعضهم البعض. فالهدف هو تسخير قُوّة الفِكْر والعَمَل المُوّحّد. وَوُجْهات نَظَر وتَطَلُّعات أُولئك الّذين سَتَتَأثّر حَيَاتَهم بالقرارات يَتِمُّ أَخْذِها في الاِعتبار في جميع الأوقات.

لَا يَقْتَصِر بِناء مجتمعات أكثر إستدامَة على تطبيق المعرفة الآنيّة فحَسْب، بَلّ يَشْمَل أَيضًا تَوْلِيد معرِفَة جديدة. والكَثير مِنها سَيكُون على هَيئَةِ بَصائر مُكْتَسَبَة مِن التّجريب على المُسْتَوى المَحَلّي. قَدّ تَكُون الملاحظات الأوليّة مُجرد رِوايات شَخصيّة لِلعامِلين على مُستَوى القاعدَة الأهليّة. ولَكِن مَع مُرور الوّقت تَظْهَر أَنْماط يُمْكِن تَوْثِيقَها وتَحْليلَها، مما يؤدي إلى تجميع مجموعة غنيّة مِن المَعرفة بِشَكلٍ مُتزايد والّتي يُمكِن نَشْرَها مرة أخرى إلى القاعدة الأهليّة واِسْتِخدامِها لتشكيل الجُهود اللّاحِقة. وبهذه الطريقة، يُصبح التّعلُّم عَن بِناء عالَم مْستديم لَيْس محصورا في دائرة محدودة من الخُبراء بِمُفْرَدِهم، بَلّ بِالأَحْرَى مَسْعَى يَعْتَمِد على مُساهَمة جماهير البَشريّة ويُرَحِّب بها.

"العِلْم هو بِمَنْزِلَة الجِناح لِلوُجُود ومَرْقاة لِلصُّعود، تَحْصِيلَه واجِب على الكُلّ"

مِن الكِتابات البَهائيّة المُقَدّسّة

التّضامُن مَع دُور الدّولَة

تَلْعَب العَديد مِن الجِهات الفاعِلَة دُورًا في بِناءِ عالَم أكثَر اِسْتِدامَة. فَيُمْكِن لِلمُجتمعات المحليّة أنْ تَفعَل الكَثير لِتَعزيز العَمَل الجماعي ومُضاعَفة القُدْرات الاِبْتِكاريّة لِأَعضائها. هذا ويُظْهِر الشّباب بِاسْتِمرار اِنْفِتاحًا على طُرُق جَديدة لِتَنظيم المُجتمع، واِستعدادًا لِلتّعلُّم مِن خِلال العَمَل في الخُطُوط الأماميّة، وتأهبا لِلاِلْتِزام بِالْمَساعي العاليّة ورَفاهيّة الأجيال القادِمَة. وكَذلِك يُمكِن للأعمال والصناعة، بِاعْتِبارِهِما عَناصِر أساسيّة لِلنِّظام الاِقْتِصادي المُعاصِر، إتخاذ قرارات بناءّة تَنْتَشِر فوائدُها في المجتمعات والمناظر الطبيعيّة في جميع أنحاءِ العالَم. ومع ذلك، فإنّ دُور الحكومة الوطنيّة فَريد وبارِز اليوم. في هذه المرحلة مِن تاريخ البَشريّة، تُعَدّ الدّولَة الوَطنيّة إحدَى الوَحَدات الأساسيّة للنّظام السِّياسي العالَمي. ولذلك فإنّ الدُّول لها دور لَا غِنَى عَنه في مُواجَهة التّحديّات البِيئيّة العالَميّة.

ويَعْتَبِر تكليف الدّولَة، بِصِفَتِها راعيّة لِلصّالِح العام، طويل الأَمَد بِطَبِيعَتِه، ويَتَخَطّى الدّوَرات الاِنْتِخابِيّة والفترات السِّياسِيّة. فهنا تَضْمَن الحَوْكَمَة الفَعّالَة اِزْدِهار الجَميع داخِل سِيادتِها ولِأجيالِها القادِمة. وأيضًا تَتَحَمّل الدّولَة مَسْؤوليّة أساسيّة في إدارة المَشَاعات، سَواء داخِل حُدُودِها أو بِالتّعاوُن مع مؤسسات أخرى خارِج تِلك الحُدُود، مِثل إدارَة ورِعايَة المَرافِق العامّة والّتي تَعود بالفائدة على الجَميع.

كذلك يَلْزَم اِسْتِغلال القُدْرات الكَامِلَة لِلدّولَة لِمُواجَهَة التّحَدِّيات البيئيّة. فإعادة تَشكيل صِناعات بأكملِها عَبْرَ مختلف قِطاعات المجتمع هو عَمَل يَتَطَلّب عُقُود مِن الوَقت، ويَشْمَل كِميات هائلة مِن المَوارِد الماليّة والوَظائف والبِنْيّة التَحْتِّيّة الملموسة. وبالتالي سيكون مِن الأساسي دور الحكومة في وَضع خِطَط طويلة الأَجَل، ودَفع تَطبيقها بِشَكْلٍ مَنْهَجِيّ مع مرور الوقت، وخَلْق الأوضاع الّتي تُصْبِح فيها التّطَوُّرات الضّروريّة أمرًا ممكنًا.

في بعض الحالات، قَدّ يَتّخِذ ذلك شكل إعانات أو تعويضات أو تعديلات تَنظيمية أو وسائل أُخرى لِتَحفيز العمل الضّروري تَنْفيذه. وفي حالات أخرى، سيكون المطلوب مِن الحكومة والأفراد القيادِيِّين في دَوْرِهم في إرساء القواعد والمعايِّير أنْ يقدموا التوضيح، والتّشْجيع، والإثْناء، والدّعوة إلى العمل. وبِشَكلٍ عام، تَتَمَتّع مؤسّسات الحُكم بِمَوْقِعٍ فَريد لِتَعزيز ودَعْم الحَرَكَة مِن جيل إلى جيل.

سَيَكُون تأسيس صِفات وإتِّجاهات جَديدة للقيادة أمرًا ضروريًا، إذا أرادت الدُّول معالجة الاِهتمامات البيئية بِشكلٍ فعّال. تُعَدّ الشيم الشّخصيّة أمرًا محوريًا في هذا الصَدَد، ويُمْكِن رُؤية التّقدُّم في القادة حِين يَتعامَلُون مَع الخِدمة العامّة على أنّها مَسؤوليّة ولَيْسَت طَريقًا لِتَحْقِّيق مَكاسِب شخصيّة، ويَعْكِسون المسؤوليّة لِتَحْقِّيق غايات أعلى مِن النّصر الاِنْتخابي أو التّقَدُّم الشّخصي، ويَتَخِذُون قَرارات صعبة طالما تَتَماشَى مع الخير العام. مِثل هذه الأمثلة مِن الشّجاعة الأخلاقيّة هي مِن بَيْن الإنجازات الأكثَر رسوخا لِلقادَة وسَوف يَتِمُّ تَذَكُّرِها لِفترة طويلة بَعد تَلاشِي حِسابات أيّ لحظة معينة أو مناخ سياسي.

في خِلال الأعوام الماضيّة، زاد التّشاؤم حَوْل دُور الدّولة، و صحيح أنّ الكثير مِن النّاس قَدّ عانَت عِندما لَمْ تَسْتَطِع أو ترضى الحكومات القيام بوظائفها، فمثلا، عندما تَمّ التّنازُّل عَن دُور وَضع القواعِد والمعايِّير لِمَنْ لَهُمْ مَصالِح خاصّة؛ وعِندما يَتِمُّ خَصْخَصَة تَقديم الخِدمَة بِطُرُقٍ تَجْعل رَفاهِيَة الإنسان تَخْضَع لِمُتَطَلّبات دافِع الرِّبح ؛ أو عِندما ضَحّى الفَساد السياسي والنَفَعِية بالصّالِح العام لِمَصْالَح شخصيّة. 

وتَخْلِق الحَوْكَمَة الرّشِيدَة السِّياق الّذي يُمْكِن فِيه لِلقِطاع الخاصّ، والمجتمع العِلْمي، والمجتمع المَدَني، وغَيْرِهم تَقْدِيم أعلَى مُساهَماتِهم.

ولكن، فإنّ مِثلَ هَذه الأَفكار لَيْسَت إدانَة لِلحُكُومَة بِذاتِها بِقَدرِ ما هي تَذْكِير بِالسُّلطة الفَريدة الّتي تَتَمَتّع بها. يُتِيح الحُكْم الرّشِيد إطْلاق العَنان لِقُوّة العمل على مُستوى المُبادَرة الفرديّة والاِنْطِلاق على مُستوى الإرادة الجماعيّة. فَتَخْلِق الحَوْكَمةُ الرّشيدَة السِّيَاقَ الّذي يُمْكِن فيه لِلقِطاع الخاصّ، والمجتمع العِلْمي، والمجتمع المَدَني، وغيرهم تقديم أعلَى مُساهَماتِهم. لذلك، فإنّ الجميع لَدَيْهِم مَصلَحَة في ضمانِ أنْ تُنَفِّذ الحٌكومة وظائفها، على أكمل وَجْه مُمْكِن، كَمُشَجِّع لِلثِّقة العامّة.

موضع صنع القَرار

في عَصرٍ يَتِمُّ فيه الشُّعور بالعمليات العالميّة بِشَكلٍ مُتَساوٍ داخِل القُرى وعَبْرَ القارّات، يجِب إيلاء اِهْتِمامٍ مُسْتَمِر لِتَحدِيد المَكان المُناسِب لِصُنع القَرار. المُفتَاح في هذا الصَدَد هو المبدأ القائل بِوُجُوب اِتخاذِ القرارات على المُستَوى الّذي يُمْكِن عِندَه الحُصول على أَفْضَلِ النتائج. 

الإخْلاص لِهذا المبدأ يَعني، في كثيرٍ مِن الحالات، نَقْلًا عَميقًا لِلنُّفُوذ والسُّلْطة إلى المجتمعات والمؤسّسات ذوات السُّلْطة المحليّة. ومِن الضّرُوري أنْ تُصْبِح عمليات صُنْع القرار أكثَر شُموليّة ومحليّة وتَشارُكيّة في السّنوات القادِمة. لِكُلِّ شَعب الحَقّ والمسؤوليّة في تَحديد مَسار التّقدُّم الخاصّ بِهِ، ولِكُلِّ مِنهم مُساهَماتِهِ الحيويّة في بِناءِ حضارَة أكثَر اِستِدامَة. عَلاوَة على ذلك، أَثْبَتَت التّجْرُبَة أنّه بُدون اِلتزام أُولئك الّذين ستَتأَثّرَ حياتَهم بالقرار، سَتُعاني البرامِج والسِّياسات مِن أَجْلِ تَرْسِيخ جُذُورِها في السُّكّان الّذين يَعْتَمِد عليهم تَنفيذها.

تَكْمِلَةً لِلاِتِجاهات نَحوَ الأَقْلَمَة، يَتَطَلّب صُنع القرار المناسب أيضًا اِتخاذ إجراءات على مُستويات تَتَجَاوَز الدّولَة الوَطنيّة، عند الضّرورة. هناك العديد مِن التّحديّات البيئيّة والعابِرة لِلحدود مِن حيثُ النِّطاق والتَأثير، وبِالتالي فَهي غَيْر قابِلَة لِلحَل مِن خِلال التّشريعات على المُستَوى الوَطَني وَحْدَه. ولِذلِك يَجِب أنْ يَتِمَّ التعبير عن الاِهتمام المَشْروع بالمصالِح الوطنيّة داخِل الهياكِل العالَمية الّتي تُسَهّل العَمل الفَعّال والمُنَسَّق في خِدمَة مجتمع دوليٍّ مُزدَهِر. إنّ السّبيل الوّحيد القابِل لِلتّطْبِيق والمتجه للأمام يَكْمُن في نِظامٍ مِن التّعاون العالَمي المُتَعَمِّق.

تَعْتَمِد فَعالِيّة الجُهود على أيّ مُستَوى علَى جُودَة العِلاقات المُتبادَلة بَيْنَهم. فَقَد يُمْكِن أنْ تُصْبِح عَمَلِيّة صُنع السِّياسات على المُستَوى الوَطني أو العالَمي مبهمة ونظَريّة وبِالتالي قَدّ تَكُون غَير ذات صِلة بالوَاقِع أو تأتي بنتائج عَكْسِّيّة، إذَا ما فُصِلَت عَن ظُروف القاعِدَة الشّعبيّة. وبالمِثْل، سَتظل المُبادرات على مُستوى المجتمع مَحدُودة إذا لَمْ تَكُنْ مُرتَبِطَة بالعمليات العالَميّة المَعْنِيّة بالإنسانيّة كَكُلّ. سَتَكُون هناك حاجَة إذَن إلى هياكِل تُسَهِّل نَقْل المَعْرِفَة والأفكار عِند إنشائها مِن خِلال الخِبرة العَملِيّة والتّحلِيل.

"[مبدأ وحدة الإنسانية] يُصِّر على خُضُوع الدّوَافِع والمصالِح الوطنيّة لِلمطالِب الضّرُوريّة لِعالَم واحِد. إنّه يَرفض المركزيّة المُفْرِطَة مِن ناحِيّة، ويَتَنَصَّل مِن جَميع مُحاوَلات التطابق مِن ناحِية أُخرى."

مِن الكِتابات البَهائيّة المُقَدّسّة

اِقْتِراحات لِلبَحث

يَجِب أن تكون مَسؤوليات الدّول في النّهوض برفاهِيَة شُعُوبِها، والّتي تَرْتَكِز في نِهايَةِ المَطاف علَى اِزْدِهار البَشريّة كَكُلّ، ذات أهمِّيّة قُصْوَى في تشكيل السِّياسة العامّة. ولذلك، يَجِب تَنظيم مُنْتَدَيَات صُنع القَرار بِطُرُق تَضْمَن أَوْلَوِّيّة جهود الدّول للتّقَدُّم بالصّالِح العام قَبْل الاِهْتِمامات الأُخرى الأكثَر مَحْدُودِّيّة. فالعَدِيد مِن الفضاءات الّتي يَتِمُّ فيها تَحدِيد القانون والسِّياسَة اليوم تَتَأثّر فَعالِياتِها بدرجة كبيرة بجهات أخرى أقل مايذكر أن دوافعها منفعتها الذاتية من تكديس الأرباح الماليّة أو النُّفُوذ السِّياسي. لذلك، هناك حاجة إلى آليات مِن شأنِها أنْ تَضْمَن أنّ هذه الأطراف، سَواء كانت شَرِكات مُتًعدِّدَة الجِنسيّات، أو كِيانات إعلامية، أو مَنَصّات تِكْنُولوجِية، أو مَجْمُوعات مَصالِح خاصّة، أو غيرها، لَنْ يَتِمّ ضَمّها إلّا بالقَدْر الّذي تُعَزِّز فيه مُشارَكَتِها الاِستدامَة طَويلَة الأَجَل، وتُعَزِّز جُهُود مُمًثِّلي الشّعب حَسِنَة النِيّة بَدَلًا عَن تَقْوِيضِها. فَمَثَلًا في سِياق الأُمم المتّحدة، يُمْكِن أنْ يُطَبّق ذلك على شَكْلِ سِياسَات تَضْمَن عَدَم مَنْح مُعامَلَة تَفْضِيلِيّة أو نُفُوذٍ لَا داعِ لَه لِأطرافٍ غَير وَطنيّة والّتي لَديها مَوارِد ضَخمَة نَقدِيّة أو غَيرها.

غالبًا ما تُعْزَى الفَجَوات بَين حَجْمِ العمل اللّازم لِمُواجَهَة تَحَدِّيَات المَناخ والتّدابِير المُتَّخَذَة بالفعل إلى الغياب المَلْحُوظ لِلْمَوارِد الماليّة. ومع ذلك، فإنّ التّعبِئة الحَكِيمَة لِلمَوارِد وإنْفاقَها لِلنُّهوض بالصّالِح العام، على مُستَويات تَتَنَاسَب مع الإحتياجات الصّائِبَة، هي مَسؤوليّة أساسيّة لِلدّوْلَة. لِذلك تَتَحمّل المؤسّسات الحاكِمة واجبًا حاسمًا تِجاه الأجيال الحاليّة والمُقْبِلَة. وتَمْنَح هذه المسؤوليّة الدول تَفْويضًا مَعنويّا وأخلاقيًّا لِجَمْعِ المَوارِد الكافيّة لِمُعالَجَة المُتَطَلّبات المُلِّحَة والمُسْتَقبَليّة، مع إيلاء الإعتبار اللّازم لِمعايِّير العَدَالَة والقُدْرات والمسؤوليّة. كما يَتَطَلّب أيضًا إنْفاق هذه المَوَارِد لِتَعْزِيز رَفاهِيَة البَشَريّة،  ولَيْس في دَعم أنْماط الحياة غير المستديمة أو المُدَمِّرَة. وتَوسِيع هذه المسؤوليات إلى المستوى العالَمي، بالإضافة إلى اِنْعِكاساتِها الواضِحة على السّياسة الوطنيّة، سَيَتَطَلّب تَعديلات كبيرة لِلتّرْتِيبات الاِقتصاديّة بَين الدُّول، لَيْس أَقَلُّها اِتِّخاذ الخُطُوات اللّازِمَة لِتَخْفيف التّفاوُتَات الهائلَة والمُدَمِّرة في الثّرْوَة بينها. تَمّ تَقْديم مجموعة مٌتنوعِة مِن التّدابير على مدى عِدّة عُقُود لِتّحْقِّيق هذه الغايّة، مِثل آليّة لِضمان التّنْسِّيق الضَريِبي العالَمي أو إطار لِتَقْنِين الدّفْق المالي غَيْر القانوني. إذا تَمّ تَنْفِيذ هذه المُقترحات بِعناية، يُمكِن أنْ تنجز الكَثير لِلاِسْتِفادة بِشكلِ فائق مِن مجموعة الموارِد العالَميّة المُتاحَة.

العالَم الّذي يَلُوحُ لنا

تعمل أعدادٌ مُتزايِدَة من أَجْلِ رؤية تزدهر فيها حَضارة عالميّة في وِئام مَع بيئتها الطّبِيعيّة. العالَم الّذي يَلُوحُ هو عالَم التّكَامُل، والتّوازُن والجَمال، والنُّضج. إنّه عالَمٌ يَتَمَتّع بتصور جديد لتعريف التقدم، ومَليء بالمجتمعات والأفراد الّذين يَعملون معًا بِدَعمٍ مِن المؤسّسات نَحوَ تَحقِّيق أعلَى تَطّلُّعاتِهِم. إنّه عالَم يَتَحَرّر تدريجا مِن التّنازُلات الأخلاقية في مجالاته الاِجتماعيّة والاقتصاديّة والبيئيّة، والّتي يتم الإصرار على ضَرُوريتّها لِلتّقَدُّم بإستمرار.

بَدأ فِعلًا التّحَرُّك نَحوَ هذه الرُّؤية، وزَخَمِها في اِزدياد. وتَمّ الإدلاء بِالطُّمُوحات النَبيلَة والمُطالَبة الآن بِالعمل على نِطاقٍ لَمْ يُرَ مِن قَبْل. ومع ذلك، فإنّ وَتِيرَة التّحوُّل لَمْ تَرْتَقِ بَعد إلى مُستَوى ضَرورات السّاعة. ولَنْ يَضِيق نِطاق الخَيارات المُتاحَة لِإجراءِ التّعديلات اللّازمة إلّا إذا تَمّ تَأْجِيل العَمل إلى المُستقبل. فَهَل سَتَقُوم البَشريّة بِدَوْرِها بِناءً على حَقيقَة أنّ مَصيرها ومَصير الكوكب مُتَشابِكان بِشَكل قطعي؟ أَمْ سَتَظَلّ هناك حاجة إلى كوارث أكبر لِتَحْفِيزَها على التّحَرُّك؟ 

بدأ فعلًا التّحرُّك نَحوَ هذه الرُّؤيّة، وزَخَمِها في اِزدياد.

الفَجْوَة بَيْن النِّيّة والعمل هي واحدة مِن التّحَدِّيَات المركزيّة الّتي تُواجِه البَشريّة اليوم. ولَكِن بالإمكان تَقْلِيص هذه الفَجْوَة، وأفرادٍ ومجتمعاتٍ ودُول يَقُومُون بِنَصِيبِهِم في تَحقِّيق هذا الهَدَف كُلّ يومٍ. ومع ذلك، لِكَيّ يَرْتَقِي العمل إلى المستويات المطلوبَة، هناك حاجة إلى إجماعٍ وإرادة مُشتركَة أكبَرُ قَدْرًا بَين الدُّوَل حَوْلَ القِيَم الّتي تَتَطَلّبَها المرحلة الحاليّة مِن تَطُور البَشريّة. كَمَا أنّه يَدْعو إلى قَدرٍ أَعْظَم مِن العَزْم في وَضْعِ تِلْك القِيَم مَوْضِع التّنْفيذ، وإعادة الاِلتزام بِما يَعود بِالنّفَع على الصّالِح العام، والتّخلِّي عَن كُلِّ ما يَقِف في طريق الاِستجابَة لِلنِّداء الأخلاقي والعملي لِلسّاعة الحاليّة. وبالفعل هذا مَسعًى كبير، لَكِن فوائِدَه سَتكون إرثًا لَا يُقَدّر بِثَمَن يَجِبُ تَرْكَهُ لِلأَجيَال القادِمَة. دَعونا نَتّحِدُ معا في الاِرتقاءِ إلى مُستوَى مَطَالِبِهِ.