القيم في الابتكار: مشاركة المرأة في إعادة تخيُّل التّقنيات الرّقميّة

Statements

القيم في الابتكار: مشاركة المرأة في إعادة تخيُّل التّقنيات الرّقميّة

بيان الجامعة البهائيّة العالميّة في الدّورة السّابعة والسّتين لّلجنة المعنيّة بوضع المرأة

New York—

إنّ واقع العالم، سريع التحوّل والتّغيير، قد  دفع إلى حدوث تقدير أكبر لترابط البشريّة، يرافقه اعتماد أكبر على التّقنيات الرّقميّة.  فبالنّسبة للعديد من النّساء، بمن فيهنّ اللّائي يفتقرن إلى إمكانيّة الوصول للتّقنيات أو القدرة على تحديد كيفيّة تأثير هذه التّقنيات على مجتمعاتهنّ المحلّيّة، أدّى ذلك إلى زيادة في الإقصاء والتّهميش.  ومع ذلك، حتّى لو تمّ حلّ المسائل المتعلّقة بالوصول إلى التّقنيات وقضايا مماثلة، إلّا أنّ هناك تحدّيًا أكبر لا يزال قائمًا.  فالعديد من التّقنيات، الّتي ينبغي أن تكون بمثابة أدوات لتوسيع قدرة البشريّة والمساهمة في بناء حضارة مزدهرة ومتّسقة تعكس أسمى القيم الإنسانيّة، تعزّز بدلًا من ذلك مفاهيم مشوّهة عن الطّبيعة والهويّة البشريّة، والتّقدّم، والهدف.  فالعديد من التّقنيات، الّتي غالبًا ما تقوم قلّة من أصحاب الامتياز بتوجيه تصميمها، تستند على قيم مادّيّة ويتمّ غرسها على نطاق واسع دون مراعاةٍ للآثار الاجتماعيّة والأخلاقيّة والروحانيّة المترتّبة عليها.  وعلى الرّغم من تأثّر كلّ فرد جرّاء تشكّل التّكنولوجيا من خلال وجهات نظر عالميّة ضارّة، إلّا أنّه بالنّسبة للنّساء والفتيات، اللّائي يشكّلن قاعدة كبيرة من المستخدمين، وفي كثير من الحالات يمثّلن المستهلكين المستهدفين الأساسيّين، فإن هذا يمثّل تحدّيًا كبيرًا.  ومع تزايد استخدام الأدوات الرّقميّة عبر مختلف مجالات المسعى الإنسانيّ، يصبح أمرًا ضروريًّا وجوهريًّا إجراءُ فحص صادق وأمين  للقيم والنّوايا الّتي تسترشد بها عمليّة الابتكار.  كما أنّ وجهات النّظر والمساهمات الّتي يمكن للمرأة أن تقدّمها يجب أن تكون في صلب هذا المسعى لضمان أنّ أدوات العالم الحديث، المستنيرة بالقيم الإنسانيّة الجماعيّة، تساعد أعدادًا غفيرة على بلوغ إمكاناتهنّ.

*

يمكن أن تكون التّكنولوجيا أداةً فعّالةً في زيادة القدرات البشريّة والعمل على ترابط المجتمعات المحلّيّة.  ومع ذلك، مثلها مثل أيّ أداة، يمكن نشر التّكنولوجيا والفضاءات الّتي توجدها بطرقٍ لا حصر لها، وهذا من شأنه إمّا أن يحقّق فوائد أو يعزّز ظلمًا قائمًا.  وعلى المستوى البنّاء، شكّلت الشّبكات والحركات الإلكترونيّة وسيلةً هامّة لزيادة الوعي بالتّحدّيات العديدة الّتي تواجهها النّساء والفتيات، مع توسيع دائرة المشاركة بطرقٍ لم يكن من الممكن تصوّرها في السّابق.  إلّا أنّها عندما تكون مدفوعة بآراءٍ عالميّة ضيّقة أو تركيزٍ قصير النّظر على الأرباح، فقد تمّ استخدام التّقنيات أيضًا في الاقصاء، والمضايقة، والاستغلال أو حتّى القمع.

إنّ التّقنيات الرّقمية ليست حياديّة القيمة.  وعلى غرار النّموذج التّقليديّ للتّنمية، فإنّ الابتكارات التّقنيّة تتأثّر بشدّة بالهياكل الأساسيّة المادّيّة.  فالمفاهيم والأفكار الأساسيّة عن التّقدّم غالبًا ما تساوي  بين استهلاك السّلع ومستويات أعلى من الرّفاهيّة.  إنّ أشكالًا مختلفة من التّحيّز الاجتماعيّ وعدم المساواة، بالإضافة إلى وجهات نظر حول الطّبيعة البشريّة والتّقدّم، المدفوعة باعتبارات ضيّقة للرّبح، غالبًا ما تتجسّد في تصميم التّقنيات الرّقميّة أو تطبيقاتها، وبالتّالي يتمّ ترويجها للمستخدمين من خلال الخوارزميّات المصمّمة، على سبيل المثال، لمضاعفة استخدام الشّاشة رغم مخاوف الإدمان المُثبتة علميًّا.  لذلك فإنّ فحصًا صادقًا وأمينًا للافتراضات والمعايير، الّتي يقوم عليها إنشاء هذه التّقنيات واستخدامها، لهو أمرٌ بالغ الأهميّة.  كيف يمكن لمفاهيم أشمل عن الطّبيعة البشريّة، تضمّ صفات ومواقف مثل الأمانة، والتّمسّك بالحقيقة، والحسّ بالمسؤوليّة باعتبارها اللّبنات الأساسيّة لنظام عالميّ مستقرّ، أن تجد تعبيرًا متزايدًا لها في التّقنيات الرّقميّة؟  كيف يمكن أن تشارك المجتمعات المحلّيّة في عمليّة التّحديد الجماعيّ لأولويّاتها والتّشاور حول تأثيرات التّقنيات في سياقها المحلّيّ؟

على الرّغم من أنّ كلّ فردٍ ومجتمعٍ محلّيّ متفرّد في تأثُّره  بالقيم الجدليّة الكامنة وراء هذه الأدوات، إلّا أنّ الدّمج الشّامل لهذه القيم في التّقنيات كان له آثاره الضارّة على العديد من النّساء والفتيات، لا سيّما في الطّريقة الّتي يتمّ بها تجسيدهنّ أو إغراؤهنّ على استهلاك مجموعة متنامية من سلع مادّية باسم تطوير الذّات المُفترض.  وبسبب هذه التّجارب تحديدًا، وكذلك بسبب التّوجّه الأبويّ للثّقافة السّائدة في فضاءات  صنع القرار المحيطة بالابتكار، فإنّ إشراك النّساء يُعتبر أمرًا بالغ الأهميّة في فهمٍ أفضل لكيفيّة تصوّر هذه التّقنيات واستخدامها بشكلٍ مناسبٍ وواعٍ.

*

إنّ التوسّع في إشراك المرأة ينبغي أن يكون، في نهاية المطاف،  قائمًا على الاعتراف بأنّ تعدّد وجهات النّظر هو شرط أساسيّ لبناء مستقبل يستجيب لكامل مدى الخبرة  البشريّة.  ونظرًا لمخاوف التّمثيل الواضحة داخل قطاع يهيمن عليه الذّكور بصورة تقليديّة، فإنّه يجب إعطاء الأولويّة لزيادة مشاركة المرأة في القرارات المتعلّقة بالتّصميم المسؤول عن هذه التّقنيات واستخدامها وتوزيعها، وكذلك في إنشاء المحتوى الرّقمي.  ومع ذلك، فإنّ التّمثيل العادل، بعيدًا عن كونه غاية في حدّ ذاته، يخدم أيضًا كوضعٍ يمكّن أنماط مهيمنة للمنافسة وعدم المساواة من إفساح المجال للتّعاون، والاستقصاء الجماعيّ، والاهتمام بالصّالح العامّ.  وكما هو الحال في العديد من المجالات، فإنّ أكبر درجات التّغيير ستكون مطلوبة من أولئك الّذين استفادوا إلى حدٍّ كبير من الثّقافة السّائدة.

وعلاوة على تغيير الثّقافة في الفضاءات والعمليّات المتعلّقة بالابتكار التّقنيّ، فإنّ مشاركة المرأة، في واقع الأمر، تُمكّنها من توسيع أفق المنظور البشريّ في عمليّات والاستقصاء، والمساهمة في إنشاء نماذج جديدة لتوجيه تطوير التّكنولوجيا.  على الرّغم من أنّ القدرة على استكشاف الاعتبارات الأخلاقيّة المرتبطة بالتّقنيات الرّقميّة يمكن أن تظهر من قِبَل أيّ شخص، بغضّ النّظر عن الجنس، فإنّ تجارب العديد من النّساء، النّاجمة عن فرض آراء أبويّة سائدة ، تضعهنّ في مكانة جيّدة لتقديم رؤى محدّدة لتطوير نماذج أكثر اكتمالًا، مستنيرة بصفات مثل الاعتدال والعدالة والتّنوّع والاهتمام بالأجيال القادمة.  ولدى القيام بذلك، يمكن للمرأة أن تساعد في ضمان أن تكون هذه الصّفات أكثر اتّساقًا في تطوير التّكنولوجيا.

ومع ظهور مجموعةٍ واسعةٍ من الصّفات لإثراء ثقافة قطاع التّكنولوجيا، يمكن توسيع إمكانات المجال بشكلٍ أكبر.  وبعيدًا عن كونها عائقًا يخنق الابتكار والنّموّ، يمكن لأشكال أكثر شمولًا من المشاركة والاستقصاء، تتميّز بالالتزام بمبدأ المساواة بين الجنسين، أن تطلق أشكالًا من الابتكار تعكس القيم الجماعية للإنسانيّة بشكلٍ أكبر.

*

وعلى المستوى الوطنيّ، سيلزم وضع سياسات لضمان دمج وجهات نظر متعدّدة في مجالات وعمليّات متعلّقة بالابتكار التِّقَنيّ.   إنّ التّكنولوجيا توسّع من نطاق ما يمكن أن يصله الإنسان؛ لذلك يجب الحرص على ضمان أنّها توسّع النّظام الأخلاقيّ الّذي تزدهر فيه حياة الإنسان، لا أن تعطّله.  وسيشمل ذلك بطبيعة الحال آليّاتٍ لدعم المشاركة الكاملة والهادفة للمرأة.  وستحتاج الحكومات أيضًا إلى الاضطلاع بدورٍ استباقيّ أكبر في التّصدّي للتّهديدات الحاليّة، مثل ضمان حماية النّساء والأطفال والمجتمعات المحلّيّة الضّعيفة من انتهاكات حقوق الإنسان على الإنترنت.

إنّ ضمان تنوّع وجهات النّظر على المستوى الدّوليّ سيكون أمرًا لا غنى عنه أيضًا لإنشاء التّقنيّات واستخدامها وتوزيعها على نحوٍ مسؤول، نظرًا لنطاقها وتشغيلها العالمييْن بطبيعتمها.  وسيكون من المهمّ في هذا الصّدد الجمع بين الأمم المتحدّة والحكومات والقطاع الخاصّ والمجتمع المدنيّ، بما في ذلك الجهات الفاعلة النّسائيّة، وذلك لإجراء تحليلٍ صريحٍ للتّأثيرات والقيم المتعلّقة بتطوّر التّقنيات الرّقميّة بالإضافة إلى تحديد السّياسات الدّوليّة، الّتي توجّهها مبادئ المساواة والعدالة والعالميّة والكرامة والأمانة وتحرّي الحقيقة.  إنّ التّحرّك نحو الاتّفاق الرّقميّ العالميّ الّذي اقترحه الأمين العامّ للأمم المتّحدة، لضمان مواءمة الابتكار التّقنيّ مع القيم العالميّة المشتركة، هو أحد الاقتراحات الجديرة بمزيدٍ من الاستكشاف.  إنّ تطوير مقاييس التّقدّم لاستكمال النّاتج المحلّيّ الإجماليّ في صياغة مفاهيم أكثر شموليّة للتّقدّم، سيساعد أيضًا في فحص الافتراضات المتجسّدة في تصميم التّكنولوجيا.  وفي هذا الصّدد، لدى الأمم المتّحدة فرصةً فريدةً لإنشاء عمليّات تعزّز نموذجًا للابتكار التّقنيّ للبشريّة يتّسم بدرجة أكبر من السّلامة.  وعليه، فإنّ إعطاء الأولويّة للمرأة وإدماج أفكارها وتعزيز مشاركتها في تشكيل اتّجاه تطوير التّكنولوجيا، سيكون أمرًا بالغ الأهميّة لتحقيق هذه الغاية.  إنّ استكشاف آليّات من شأنها أن تعزّز تعليم النّساء والأطفال باستخدام التّقنيات الرّقميّة، وكذلك ضمان مشاركتهم الكاملة وتمثيلهم وحمايتهم ورفاههم عبر الإنترنت، هي من الأمور الّتي يمكن إعادة النّظر فيها بشكلٍ دوريّ في فضاءات كهذه اللّجنة.

*

إنّ هذه اللّحظة في التّاريخ تقدّم فرصةً لمواءمة الابتكار التّقنيّ مع أسمى درجات الحكمة البشريّة.  فالمفاهيم التّقليديّة المتعلّقة بالتّقدّم والطّبيعة البشريّة غير قادرة على الاستجابة لمفاهيم أكمل لرفاهة الإنسان وتأسيس حضارة مزدهرة، بما في ذلك إعلام ودفع تطوير التّقنيات الرّقميّة.  فجلب مجموعة واسعة من وجهات النّظر من أجل التّحقّق من هذه الافتراضات الأساسيّة سيكون أمرًا بالغ الأهميّة في رسم مستقبلٍ يوازن بين الرّفاه المادّيّ والاعتبارات الأخلاقيّة والاجتماعيّة والرّوحيّة.  في هذا الصّدد، ستكون أصوات النّساء ووجهات نظرهنّ، لا سيّما النّساء اللّواتي تمّ تهميشهنّ بسبب وجهات النّظر المادّيّة المفرطة في العالم، أمرًا لا غنى عنه، وستكون مشاركتهنّ الهادفة شرطًا أساسيًّا لخلق أنماطٍ جديدة من الثّقافة والتّفاهم حول تطوير التّكنولوجيا.  إنّ استحداث نموذج أكثر شموليّة يخاطب مفاهيم أسمى للطّبيعة البشرية والتّقدّم، وتطوير الأدوات، الّتي يمكن استخدامها وفقًا لاحتياجات وأولويّات مجتمعات محلّيّة معيّنة لإصلاح مجتمعاتها، لهي رؤية للابتكار التّقنيّ الّذي يقدّم إمكانيّات لا حدود لها.